مفارقة الهوية




إذا سألتك من أنت فلا شك أنك تمتلك الاجابة على هذا السؤال الذي يبدو بسيطا، ولكن بعد قراءتك لهذا الموضوع  ستدرك أن الاجابة ليست بحوزتك





هناك اسطورة يونانية قديمة حول سفينة ثيسيوس نسبة الى الملك الاسطوري "ثيسيوس " مؤسس مدينة أثينا ، السفينة غير حقيقية ولكن سنفترض وجودها لتوضيح مشكلة الهوية ،كان الفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخُس أول من ناقش الفكرة التالية ، سفينة ثيسيوس لها رمزية تاريخية  ولكن بالرغم من هذا لاشك أن الزمن سينال منها وسيطر القائمون عليها الى ترميمها عبر استبدال قطعها الخشبية التي اهترأت بقطع خشبية أخرى جديدة ،  في البداية سيقومون بتبديل قطعة خشبية واحدة لكن السفينة لاتزال هي نـفسها سفينة ثيسيوس ، وبعدها بشهر ربما سيقومون بتبديل قطعة أخرى وطبعا لاتزال السفينة نفسها فتبديل قطعتين من الخشب بالنسبة للسفينة الكبيرة لن يغير من هويتها، لكن ماذا لو بدلنا ثلاث أو أربع قطع؟ ستبقي السفينة نفسها ، ماذا لو بدلنا في كل يوم قطعة من السفينة ويوما بعد يوم تغيرت قطع الخشب التي تكون السفينة الواحدة بعد الاخرى متى يمكننا أن نقول ان السفينة لم تعد نفسها تلك السفينة الاثرية؟ اذا بدلنا جميع القطع فهل تبقى هي السفينة نفسها؟ يفترض قي هذه الحالة أن لاتبقى نفسها بعد أن بدلنا جميع قطعها ، ماذا لو بدلنا نصف القطع ؟هل ستبقى نفسها؟ ان هذا اللغز يعرف بمفارقة ثيسيوس نسبة الى هذه السفينة،وهذه التجربة الذهنية تطرح سؤالا عميقا عن موضوع الهوية ظل الى الان بدون حل.

يمكنك أن ترى هذه المفارقة في حياتك اليومية، عندك سيارة أهداك إياها شخص عزيز عليك، وأنت بطبيعتك لاتفرط في الهدايا القادمة من أعزاءك وتعتبرها ذوات أهمية ومكانة عندك، لكنك ستطر في عاجلا أم اجلا لإجراء الصيانة اللازمة، إذا بدلت الاطارات في سيارتك فانها لاتزال السيارة نفسها التي جائتك كهدية ولكن بإطارات جديدة،ولو قمت بتغيير المقاعد بعد ذلك فهل لاتزال السيارة نفسها؟، استمر بتغيير مكونات السيارة الواحدة بعد الاخرى فمتى سنصل الى الوضع الذي يسمح لنا بالقول انك حصلت على سيارة جديدة؟!

دعنا نأخذ الامور أبعد قليلا ، لو قمت بتغيير محرك سيارتك بعد تعطله ووضعت المحرك القديم في الكراج الخاص بمنزلك ، وكذلك فعلت بالاطارت والابواب واستمريت بهذا حتى قمت باستبدال جميع مكونات السيارة المهداة اليك ، ثم قمت بعد ذلك بتجميع المكونات القديمة التي في الكراج لتصنع منها سيارة أخرى ، صار عندنا الان سيارتين فأي منهما هي السيارة ذات القيمة العاطفية والتي جائتك من عزيز عليك ، وهنا نبدأ برؤية الصعوبة في وضع تعريف لما يسمى الهوية.

ربما تقول لنفسك أن سيارتك وسفينة ثيسيوس ليست بالاشياء المهمة بالرغم من مكانتها العاطفية فهي جمادات ، ولا مشكلة عندنا بعدم امتلاكها لهوية وذات محددة، لكن ماذا عن الانسان هل يمكن تطبيق مفارقة الهوية عليه؟ المزيد من التجارب العقلية ستجيب على سؤالنا.

هل الانسان هو الجسد؟

عادة يتم تعربف الانسان على أساس أنه هو جسمه، فنحن نتعرف على الشخص من خلال رؤية وجهه ، أيضا عند الوفاة نقول أن المتوفى مدفون في هذا القبر لأن جسمه موجود فيه،فهل الجسد هو الانسان ؟ هل جسدك هو ذاتك؟ إذا فقد الانسان احد اصابعه فسيبقى هو بلاشك وكذلك لو فقد ذراعه كلها واستبدلها بذراع بلاستيكية  فإنه لن يتحول لشخص اخر، اذا ارتكب انسان جريمة وبعد حبسه فقد ذراعه فاستبدالها بأخرى بلاستيكية فهل يجب اخراجه من السجن أم أنه لايزال الشخص نفسه؟من المؤكد أن هوية الانسان لاتتبدل عند فقد جزء من جسمه.  يجرى الاطباء الان عمليات زراعة القلب فهل الشخص المتلقي للقلب الجديد تغيرت هويته أم لازال هو نفسه بقلب جديد؟ لاشك أنه لايزال نفسه حتى لواستبدل جميع أعضائه الداخلية والخارجية أيضا(يديه ورجليه)يمكننا ان نستنتج من هذا ان الجسم ليس هو الشخص نفسه.

ماذا عن الدماغ؟

صحيح ان الدماغ جزء من الجسم لكن سنتكلم فيه بشكل منفصل للتبسيط، ربما من المنطقي ان نقول أن الدماغ هو الانسان ففي النهاية الذاكرة تخزن في الدماغ والافكار والمعتقدات والشخصية أيضا كل هذه موجودة على شكل تفاعلات بين أعصاب الدماغ، فلماذا لايكون الدماغ هو نفسه الانسان؟ والمشكلة بهذا التعريف أن الدماغ يتعرض للتغيرات مثل الجسم وسفينة ثيسيوس ، يمكن أن يفقد الانسان ذاكرته ولكنه يبقى هو ، فاننا لانعفوا عن مرتكب الجريمة اذا فقد ذاكرته ونسي أنه ارتكبها ، شخصية الانسان تتبدل مع الايام،وكذالك معتقداته وأفكاره عرضة للتغيير بل في تغير دائم، بعض العمليات الجراحية تتطلب استئصال اجزاء من الدماغ كما هو الحال في قطع الاصابع من الجسم، تصل الامور أحيانا الى استأصال الجانب الايسر من الدماغ ليبقى الجانب الايمن لوحده في الرأس،طبعا لايكون بنفس كفاءة الجانبين معا  لكن المريض لايزال بوسعه البقاء حيا ذلك لأن أجزاء الدماغ الايمن تقوم بتعويض الأجزاء التي فقدت عند استئصال الشق الايسر. 




ماذا لو قمنا بأخذ الشق الايسر المستأصل وزرعناه في رأس جسم اخر فمالذي  نكون قد حصلنا عليه ؟ شخص موجود في مكانين مختلفين في نفس الوقت باعتبار أن دماغه موجود في رأسين؟ كلا فلا أحد يمكنه التواجد في مكانين في الوقت نفسه، أيضا هل يمكنك معرفة من منهما الشخص الحقيقي صاحب الدماغ الأيمن أم الاسير؟ من الواضح لنا أن هوية الانسان وذاته - بما في ذلك أنا وأنت - ليست الدماغ ولا الجسد.



المزيد من الحجج العقلية

تخيل ان صاعقة ضربت شخص وحولته الى ذرات متفرقة (كل شيء يتكون من ذرات بما في ذلك الانسان ) ثم تمكنا بطريقة ما من تجميع ذراته مجددا بنفس الترتيب التي كانت عليه قبل أن تضربه الصاعقة، لاحظ هنا أننا استخدمنا نفس الذرات وبما أننا أعدنا كل ذرة الى مكانها الصحيح فإن الشكل الذي سينتج هو شكل مطابق لصاحبنا قبل الحادث، حتى على المستوي الجزيئي جميع ذرات دماغه في المكان الصحيح هذا يعني أن ذاكرته لاتزال بالضبط كما هي قبل الحادثة لم تمس ، وكذلك أفكاره وشخصيته ومعتقداته ، فهل بوسعنا القول أن الكائن الجديد هو نفسه الشخص الذي ضربته الصاعقة أم أن ذلك الشخص قد مات ونحن صنعنا نسخة منه ليس إلا؟ وقد لاتثير اهتمامك سيناريوهات خيالية كهذا في وأن بدت منطقية وممكنة فلاتزال بعيدة عن الواقع حتى نقلق بشأنها، في هذا الحالة دعني أعطيك معلومة قد تبدو غريبة ربما : هل تعرف ان الانسان يستبدل جميع ذرات جسمه في أقل من عشر سنوات؟ وهذا مؤكد فالانسان يتسبدل شعره وأظافره باستمرار وخلايا الجلد تتجدد ومثلها جميع الخلايا ، هذا يعني أن ذرات جسمك الان ليست هي نفسها التي كانت قبل عشر سنوات بما في ذلك ذرات دماغك، التي يشكل ترتيبها شخصيتك وذاكرتك، طبعا انت لم تفقد ذاكرتك لأن الذرات الجديدة بنفس ترتيب الذرات القديمة، لاحظ تشابه هذه الحالة مع سيناريو الصاعقة الذي طرحناه قبل قليل، والبرغم من ذلك تبقي أنت نفس الشخص الذي كنته قبل عشر سنوات والعقود التجارية أو القانونية التي قد تكون وقعتها لاتزال سارية المفعول بالرغم من ان جميع ذرات جسمك قد تبدلت تماما كما حدث مع السيارة التي جائتك كهدية وسفينة ثيسيوس الاثرية.

العقل أو النفس؟

ربما أنت هو العقل ولا أعني هنا الدماغ بل العقل بمعنى النفس (وسيتم الاشارة الى العقل والنفس على أنهما شيء واحد) ، ولكن حتى وجود العقل أو النفس لن يحل مشكلة الهوية ، فإما أن تكون النفس واحدة عند الجميع وفي هذه الحالة لاتوجد هوية تميز أي شخص عن الاخر واذا كانت النفس متغيرة بحسب تغير الشخصية فقد عدنا الى حيث بدأنا، فما هو مقدار التغيير المطلوب على النقس لتصير نفسا اخرى؟



حلول أخرى

واحد من الحلول التي قدمها الفلاسفة لتعريف الهوية أو الذات هي أن هوية الانسان تساوي جميع المواقف والتجارب التي مرت عليه،ومشكلة هذا التعريف انه يخلط ما بين تعريف الهوية وبين تعريف الحياة فالحياة هي التجارب والمواقف التي عاشها الانسيان وليست هي الانسان نفسه.

حل اخر وهو ان الهوية سواء كانت للانسان أو لأي شيء اخر، ليست الامجموعة الاحاسيس المتلقاه بسبب ذلك الكائن، بكلمات أخرى بالنسبة لك هوية اي انسان هي صورته التي تراها وصوته الذي تسمعه واحساسك به اذا لمسته، وهذه الاحاسيس مجتمعة هي هوية ذلك الشخص وذاته التي تبقى ذاتا مهما كبر في العمر أو تغيرت أفكاره وشخصيته ومعتقداته، نفس الشيء ينطبق على سفينة ثيسوس والسيارة التي جاءتك هدية فهي في الواقع الفعلي ليست الاذرات وعندما تركل السيارة او السفينة فانك تركل ذراتها ورغم هذا انت لاتدرك سيارتك على اساس انها ذرات ،بل في عقـلك انها سيارة وليست أي سيارة بل هي سيارتك تلك، الحواس بالتأكيد لايمكنها ادراك ماهية الاشياء على حقيقتها مثل ادراك الذرات ومايوجد في الذرات ولا شك أن العقل محدود بالحواس وما تدركه، فبالتالي ليس بوسع العقل الاحاطة بالماهية الحقيقية للموجودات، وكل ما باستطاعتنا أن نقوم به هو القيام بتسمية كل مجموعة من الاحاسيس باسم معين لتمييزها عن مجموعة اخرى من الاحاسيس ، فمجموعة معينة من الاحاسيس نسميها سيارة بينما مجموعة اخرى نسميها سفينة وهكذا.وهذا الحل ينفي وجود الهوية في العالم الخارجي، ويحصر الهوية داخل عقل الانسان فقط، وهذا لا يعني التقليل من شأن مفهوم الهوية ،فهو حقيقي بالنسبة لنا ولايمكننا فهم العالم الذي حولنا بدونه.

أيضا من الممكن أن تكون مشكلة الهوية مشكلة معرفية وليست مشكلة وجودية ، بمعني أن الهوية موجودة حقا في الواقع خارج العقل ولكن ليس بوسعنا الوصل لمعرفتها على الاقل في ظل العلوم الموجودة في عصرنا هذا.


هل الهوية موجودة وإذا كانت كذلك فماهو تعريفها؟ الشيء المؤكد أننا نطرح أسئلة أكثر مما يمكننا الإجابة عليها، ولكن يبقى هذا السؤال ممايستحق التفكير فيه.


Share on Google Plus

1 التعليقات:

  1. الانسان عباره عن روح
    والروح هى اللى بتتحكم فى النفس والجسد والعقل
    بس الاعجب هى اى الروح ؟!

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.