كثير منا قد واجه موت احد أقاربه أو معارفه أو شخص عزيز عليه، وكلنا سنواجه مصيرنا في الموت يوما ما، ولكن ما هو الموت؟ بعض الاسئلة تبدو بسيطة أوساذجة أو غير منطقية لكن اذا تتبعناها ومشينا ورائها فإنها ستقودنا الى المزيد من الاسئلة والمزيد من الالغاز وقد تكشف لنا عن معلومات لم تكن لتخطر ببالنا، سؤالنا هو " ما هو الموت؟ " وسنتبعه لنرى الى اين سينتهي بنا المطاف.
معظمنا يعتقد ان الموت هو توقف القلب عن العمل، ولكن هذا التعريف ليس صالحا كما سنرى.
قبل بضع مئات من السنين كانت الوسيلة الوحيدة لتشخيص حالة الوفاة هي توقف التنفس فكان الاطباء وقتها يضعون مرآة أمام انف المريض وأحيانا يضعون ريشة وإذا لم يتشكل الضباب على المرآة أو لم تتحرك الريشة فهذا يعني توقف التنفس، وبالتالي يعلن الاطباء حالة الوفاة. في القرن التاسع عشر اخترعت سماعة الاذن التي يفحص الاطباء بها نبض القلب وصار تشخيص الموت يعتمد بالاضافة الى توقف التنفس توقف نبض القلب ايضا، ولاحظ هنا أن تعريف الموت قد تغير من توقف التنفس الى توقف القلب.
ظل الاعتقاد السائد أن الموت هو توقف القلب والتنفس الى أن عرف الاطباء كيف يعيدون القلب الى العمل بعد توقفه، عن طريق اجراء الانعاش CPR ليعود القلب للعمل من جديد ويستيقظ المريض من غيبوبته (التي كانت تعتبر موتا في زمن سابق)، وبما أن القلب يمكن انعاشه لمعاودة عمله فبالتالي توقفه ليس هو الموت، لكن تخيل كم شخصا دفن وكان بالامكان إنعاشه لو كنا نعرف طرق الانعاش وقتها.
موت الدماغ وتعريف جديد للموت
يمكننا أن نقول أن الدماغ هو العضو الاهم في جسم الانسان فالدماغ يحتوي الذاكرة طويلة وقصيرة الامد وهو الذي يترجم المعطيات التي تأتي من الحواس الى معلومات قابلة للفهم، ولا ننسى ايضا ان التفكير والوعي ينشآن في الدماغ، فالانسان قد يفقد وعيه من ضربة على رأسه، أما كيف يقوم الدماغ بانشاء الوعي والافكار فهذا مما لايزال يحير الباحثين.
عند النوم الدماغ لا يتوقف والدليل هو الاحلام التي يراها النائم، وحتى في حالة الغيبوبة، مثل التعرض لضربة شمس، الدماغ أيضا لايتوقف عن عمله فلا زال عليه ان ينظم العمليات اللاإرادية الاخرى في جسم الانسان.
التطور التكنولوجي جعل بمقدورنا رسم تخطيط لنشاط الدماغ ومعرفة اذا كان الدماغ لا يزال يعمل أم لا، وتوقف الدماغ عن العمل يعني فقدان الوعي وفقدان الاتصال بالعالم الخارجي.
القلب يضخ الدم المحمل بالاكسجين الى الدماغ وإذا توقف القلب ينقطع الاكسجين عن الدماغ مما يؤدي الى توقفه بعد أقل من دقيقة من الانقطاع، يشبه الامر انقطاع التيار الكهربائي عن البيت وتوقف كل الاجهزة الكهربائية.
يمكن اعادة الدماغ الى العمل عبر إنعاش القلب ليعاود إمداد الدماغ بالاكسجين، إلّا أن القلب إذا توقف لأكثر من ربع ساعة فإن خلايا الدماغ لن تحتمل الانقطاع عن الاكسجين كل هذا الوقت وستبدأ بالموت الواحدة بعد الأخرى ولا يمكن اعادتها الى العمل ويختلف الضرر بحسب نوع الخلايا؛ فإذا ماتت الخلايا المسؤولة عن السمع فالنتيجة ستكون فقدان السمع وهكذا.
اذا استمر انقطاع الاكسجين فسينتهي الامر بموت جميع الخلايا الدماغية وهو ما يعرف بموت الدماغ، ويعتبر طبيا وقانونيا موتا للإنسان والسبب كما قلنا أن الدماغ مسؤول عن الوعي والتفكير والذاكرة وموت الدماغ يعني ضياعها فبالتالي ضياع صاحبها.
ويمكن الاستمرار بضخ الاكسجين الى الرئتين واجبار القلب على العمل بواسطة الاجهزة مثل التهوية الميكانيكية Mechanical ventilator حتى بعد موت الدماغ، لكننا لن ننجح باعادة الدماغ الميت الى العمل.
وهكذا تغير تعريف الموت مجددا وتغيرت الاجابة على سؤالنا ما هو الموت، ليتحول من الاعراض الظاهرية (توقف القلب والتنفس) الى احداث لا يمكن اكتشافها الا بواسطة الاجهزة الحديثة (موت الدماغ)، وهنا يمكننا أن نرى دور العلم والتكنولوجيا في اعادة تعريف الموت نفسه.
اذا قررنا الاعتماد على موت الدماغ كتعريف لموت الانسان فإننا سنضطر لنسأل أنفسنا عن ماهية موت خلايا الدماغ؟ وما هو موت الخلايا؟
موت الخلايا
جميع الكائنات الحية تتكون من خلايا، بعضها يتكون من خلية واحدة مثل البكتيريا وبعضها الاخر يتكون من مليارات الخلايا مثل الانسان.
وخلايا الكائن الحي، أي كائن، ليست الا مصانع صغيرة جدا ومعقدة جدا تقوم بتركيب المواد الكيميائية لصناعة مواد أكثر تعقيدا بالاضافة لصناعة مركبات الطاقة التي يحتاجها الكائن الحي ليبقى حيا.
إن مجرد توقف الخلايا عن العمل لايعني موتها، فالعلماء خلال تجاربهم على البكتيريا يجمدونها لايقافها عن العمل ثم يعكسون عملية التجميد لتعود البكتيريا للعمل من حيث توقفت، نحن نضع الشخص المتوفى في الثلاجة لتجميد البكتيريا وايقافها عن العمل لكن بعد اخراجه من ثلاجة المستشفى تعاود البكتيريا نشاطها في تحليل جسم المتوفى، يشبه الامر ايقاف مصنع عن العمل لبضعة ايام ثم اعادة تشغيله مجددا.
لكن اذا كان بالامكان اعادة تشغيل الخلية المتوقفة لتستأنف عملها فلماذا لا يمكننا انعاش خلايا الدماغ الميتة لإعادة صاحبها للحياة؟ الجواب هو أن توقف الخلية عن العمل لا يعني موتها، بل موت الخلية هو تحطمها وانهيارها بما لا يدع مجالا لاعادتها للعمل من جديد، يشبه هذا تحطيم الات المصنع بحيث لا يمكنها العمل حتى لو قرر مدير المصنع إعادته للعمل، وهو ما يحصل لخلايا الدماغ اذا انقطع الاكسجين عنها مدة طويلة فإنها تفسد وتموت.
إذا قلنا بأن الخلايا الحية هي الات تعمل ليلا نهارا والخلايا الميتة هي الات لم يعد بمقدورها العمل، فقد يعني هذا اختفاء الحد الفاصل بين الكائنات الحية وغير الحية، فما الفرق بين الالات التي بناها البشر وهي على درجة عالية من الاتقان وبين الخلايا الحية اذا كانت الخلية ليست الا مصنعا مصغرا؟
ما هي الحياة وما هي الكائنات الحية؟
يبدو أن تعريفنا للموت سيتطلب تعريفنا للحياة ايضا، والاجابة عن السؤال ماهو الموت سيفرض علينا الاجابة عن السؤال ما هي الحياة، فالموت هو عكس الحياة، وبضدها تتبين الاشياء، ولكن قبل تعريف الحياة سنحاول أولا تعريف الكائنات الحية.
وتعريف الكائنات الحية قد خاض به العلماء طويلا وكل تعريف وضع لتفريق الكائنات الحية عن غير الحية كان يتعثر ببعض الصعوبات.
مثلا لا يمكنك تعريف الكائنات الحية على انها الحيوان والانسان فقط لأن النباتات أيضا كائنات حية وكذلك البكتيريا وهي لسيت حيوانات ولا بشر، فيلزمنا تعريف يجمع كل الكائنات الحية على اختلافها وفي نفس الوقت يستثني الموجودات غير الحية سواء أكانت من صنع الانسان أم لا.
أيضا لا يمكننا أن نقول ان الكائنات الحية هي كل كائن يبدو عليه التصميم فالمصنوعات البشرية مثل الطائرات يبدو عليها التصميم ولكن لا تعتبر كائنات حية، وكذلك الكون يبدو عليه التصميم ولم يصنعه البشر ولكن لا نعتبره كائنا حيا.
الفيروسات تضيف صعوبة جديدة الى محاولتنا لتعريف الكائنات الحية فالفيروسات لا تتغذى ولاتتنفس ولكن بوسعها التكاثر عن طريق ربط حمضها النووي DNA بالحمض النووي الخاص بخلايا البكتيريا والتكاثر على حسابها، الفيروسات ليس بوسعها فعل شيء لوحدها من دون ان تكون عالة على الكائنات الاخرى كالبكتيريا ولهذا لا يعتبر العلماء الفيروسات كائنات حية وإنما على عتبة الحياة في منطقة رمادية ما بين الجمادات والكائنات الحية.
بالرغم من صعوبة وضع تعريف للكائنات الحية الا أن العلماء عامة يعتبرون الكائن حيا اذا كان يحقق الشروط التالية:
1- أن يتكون من خلية أو خلايا.
2- القدرة على التنفس.
3- القدرة على القيام بعمليات الايض.
4- الاستجابة للمؤثرات الخارجية.
5- التكاثر.
6- التيكف مع البيئة.
7- النمو.
وهذا التعريف وإن لم يكن مثاليا إلا أنه أفضل الموجود وسنأخذ به على انه تعريف صحيح للكائنات الحية.
لكن لا يزال علينا أن نعرف الحياة بحد ذاتها وهي عكس الموت وهي ما يميز الكائنات الحية.
ما هي الحياة؟
كما قلنا فإن الكائنات الحية تتكون من الخلايا التي بدورها هي أيضا كائنات حية، الا أن الخلية نفسها سواء كانت بكتيريا أو نبات أو حيوان تتكون من مواد غير حية فلا أحد يعتبر الحمض النووي كائن حي وكذلك الحال بالنسبة للغشاء الخلوي وغيرهما من مكونات الخلية.
لكن بالرغم من أن مكونات الخلية ليست كائنات حية الا أن تجمعها مع بعضها وعملها المتناغم يعطي الحياة، فالحياة على هذا هي عمليات تجري بطريقة معينة.
وعندما نقول "عمليات تجري بطريقة معينة" فنحن حينها كمن عرف الماء بالماء، فكل شيء في الكون هو عمليات تجري بطريقة معينة، فما الفرق بين العمليات التي تحدث في حاسوبك وبين العمليات التي تحدث في الخلية؟ والجواب هو درجة التعقيد، فالعمليات التي تحدث في الخلية الحية أكثر تعقيدا من تلك التي تجري في أي حاسوب أو مصنع، وعلى هذا فالفرق كما يبدو بين الكائنات الحية وغير الحية هو درجة التعقيد.
درجة التعقيد يمكن قياسها فمن الواضح أن الصخرة أقل تعقيدا من الطائرة والانسان أكثر تعقيدا من السيارة، وبناء على هذا التعريف الجديد للحياة صار واضحا لنا أن الفرق بين الموت والحياة ليس خطا واضحا فاصلا بين الابيض والاسود (الموت والحياة) بل طيفا ذو درجات مختلفة من اللون الرمادي تقع عليه كل الموجودات المعقدة بما فيه الكفاية لكي لا نعتبرها جمادات وفي نفس الوقت غير معقدة بما فيه الكفاية لنعتبرها كائنات حية، تشمكل المنطقة الرمادية تلك الفيروسات كما قلنا وربما الذكاء الاصطناعي عما قريب اذا تمكنا من صنع حياة افتراضية داخل الحاسوب أو ربما نتمكن من بناء الات صغيرة بحجم الخلية تتناغم مكوناتها معا لتصنع ما تصنعه الخلية الحية.
نعود الان الى مشكلتنا الاساسية وسؤالنا الاساسي ما هو الموت وما هو تعريف الموت؟ وقد بدأ يتضح لنا تعريف الموت بأنه ليس لحظة معينة لا رجوع منها بل انتقال خلايا الجسم من حالة التعقيد الى حالة انعدام التعقيد فالانسان الميت كما هو معروف يميل جسمه الى التحلل والرجوع الى مكوناته الاولية وزوال الخلايا وتفكك أجزائها وعودتها الى تراب الارض فتصير في تعقيدها تساوي تعقيد الكائنات غير الحية.
وقد رأينا كيف أن تعريف الموت قد تبدل وتغير عبر الازمنة بحسب ما امتلكناه من معرفة وربما إذا امتلكنا المزيد من المعرفة مستقبلا سيتغير تعريف الموت مجددا وما نعتبره الان حالة وفاة قد يعتبره الناس في المستقبل حالة قابلة للعلاج.
وأخيرا اذا كان عندك سؤال ضعه في التعليقات واذا أعجبك الموضوع شاركه مع من تعرف، والسلام.
مراجع وروابط خارجية:
http://health.howstuffworks.com/diseases-conditions/death-dying/dying1.htm
http://www.livescience.com/46418-clinical-death-definitions.html
http://medical-dictionary.thefreedictionary.com/Clinical+death
http://io9.gizmodo.com/awareness-can-continue-for-several-minutes-after-clinic-1643800112
0 التعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.