ما هو العلم





لا شك أن جذورالفضول والرغبة في الاكتشاف ضاربة بعمق في النفس البشرية وعلى هذا فالعلم كبحث عن المعرفة موجود منذ الحضارات القديمة، منذ المصريين القدماء ثم اليونان حيث ظهرت الفلسفة والفلك والهندسة ثم جاءت الحضارة الاسلامية لتساهم بدورها وتجمع علوم اليونان والرياضيات من الهند وتصدر ذلك الى اوروبا حيث كانت الثورة العلمية.


أما العلوم الحديثة، فيقصد بها عادة الثورة العلمية التي بدأت في القرن السادس عشر عندما وضع كوبرنيكوس الشمس مكان الارض كمركز للمجموعة الشمسية، تلاه غاليليو غاليلي ثم اسحاق نيوتن بعدهما ويمكنك اعتبار هؤلاء الثلاثة رواد العلم الحديث، ولا يعود هذا لاكتشافاتهم بحد ذاتها بل لأنهم مؤسسي المنهج العلمي القائم على تجريب الفرضيات والتحقق منها.



تعريف العلم


ماهو العلم؟ العلم هو محاولة للاكـتـشاف، فهم الظواهر التي من حولنا وتفسيرها، ببساطة العلم هو رحلتنا لاكتشاف هذا الكون، وليس هدف العلم الاختراع وصناعة التكنولوجيا ولا هدفه أيضا توقع المستقبل (كما في حالة الارصاد الجوية مثلا)، هذه الامور جائت بسبب العلم لاشك في هذا، ولكنها ليست هدف العلم بل كل هذه الخيرات هي أعراض جانبية للعلم، فالعلماء اذ يحاولون فهم طريقة سير الكون لا يخطر ببالهم التكنولوجيا التي ستنتج عن هذه المعرفة، بل الفضول وحده هو ما يدفع العلماء للاكتشاف.

عندما اكتشف جيمس كلارك ماكسويل قوانين الكهرومغناطيسية لم يكن ليخطر بباله أن تلك القوانين ستستخدم بعده بمئة عام لصناعة التيار الكهربائي، فيمكنك ان تعتبر حب ماكسويل للفيزياء وفضوله الجامح هو السبب في أنك تستخدم الحاسوب (أو الهاتف) الذي يعمل بالكهرباء لقراءة هذه الاسطر.

إن ما يميز العلم عن غيره من المعارف هو المنهج الصارم الذي يتبعه العلماء في محاولتهم لفهم الكون الذي من حولنا.



المنهج العلمي


يمن تلخيص المنهج العلمي على أنه رصد الظواهر الطبيعية ثم وضع التفسيرات المناسبة لتلك الظواهر ثم الـتأكد من صحة تلك التفسيرات.



ScientificMethod

ونحن نستخدم هذه الطريقة في الحياة اليومية، عندما يتعطل حاسوبي الشخصي فإنني اتأكد من نوع العطل، هل الحاسوب لايعمل أساسا أم أن شيئا اخر هو ما يحدث، بعد معرفة ماهية العطل بالضبط، أقوم بوضع تفسير مناسب لذلك العطل بالذات.


قد يكون سبب العطل احتراق ذاكرة الوصول العشوائي أو الرام RAM، أو قد يكون عدم وصول التيار الكهربائي الى الجهاز، ومهما كان التفسير الذي أراه أكثر معقولية فإن علي تجريبه للتأكد من صحته، في مثالنا هذا يمكنني تبديل الرام الحالي بواحد جديد، ويفترض بهذا أن يحل المشكلة إذا كان تفسيري صحيحا، وإن لم يجد تبديل الرام نفعا فالتفسير اذا غير صحيح وعلي البحث عن تفسير اخر.


وهنا يمكننا أن نلاحظ أن المنهج العلمي ليس الا محاولة للاكتشاف وهو منهج معقول جدا وليس به أي شيء غامض، وبوسع أي شخص أن يتعلمه ويطبقه.


طبعا في واقع الامر تطبيق المنهج العلمي لايكون دائما بهذه السهولة، ففي أغلب الاحيان لايتم رصد الظواهر بهذه البساطة، وكلما تقدم العلم احتجنا الى تفسيرات جديدة والتأكد من تلك التفسيرات قد لايكون سهلا أيضا. ولهذا فإن الفلاسفة والعلماء لازالو يطورون المنهج العلمي لضمان قدرتنا على مواجهة التحديات الجديدة. سنعرض هنا بشيء من التفصيل خطوات المنهج العلمي التي ذكرناها، وسنقول عن كل واحدة منها بضع كلمات توضيحية



أولا،

المشاهدات Observations


يفرض المنهج العلمي تفحص الظاهرة المراد تفسيرها ورصدها جيدا، لمعرفة إذا كانت تلك الظاهرة تحتاج الى تفسيرات جديدة أم أن التفسيرات الموجودة تكفي، أيضا هل قام غيرنا بتفسير هذه الظاهرة سابقا؟ اذا كان كذلك فهل تفسيره كاف؟


كل هذه المعلومات ينبغي الحصول عليها قبل أن نفكر حتى بتفسير الظاهرة التي أمامنا، ولا يشترط بالظاهرة ان تكون غريبة أو فريدة من نوعها، بل وظيفة العلم أن يلحظ ويراقب ويفسر أي ظاهرة مهما بدت صغيرة أو غير مهمة.


معظم النظريات العلمية العظيمة تم انشاؤها في الاصل لتفسر ظواهر غير عادية بمعنى ظواهر لايمكن تفسيرها بنظريات موجودة فعلا، فيضطر العلماء لإنشاء نظرية جديدة كليا تتحدى النظريات السابقة ولكنها تستطيع تفسير الظاهرة المحيرة تلك.


لكن أغلب الظواهر التي يتم اكتشافها لاتؤدي الى نظريات جديدة، بل عادة ما تحمل النظريات الحالية القدرة على تفسيرها، ولهذا يتأنى العلماء قبل الحكم على ظاهرة معينة بأنها تتحدى كل التفسيرات الحالية.


نعود الى فكرة تفحص الظواهر جيدا، أحيانا كثيرة تبدو الظواهر العادية محيرة جدا، والسبب هو عدم دراستها بالشكل الصحيح.


أحد الأمثلة الشهيرة على هذا هو ظاهرة ما يسمى مثلث برمودا حيث يفترض أن السفن والطائرات تختفي عند مرورها بتلك المنطقة، ولاشك أن اختفاء الاشياء بتلك الطريقة الغامضة يعد تحديا لكل ما نعرفة من نظريات عن الفيزياء، فهل هذا يعني أن علينا ابداع نظرية جديدة لتفسير الاختفاء المزعوم للسفن والطائرات أم أن النظريات الحالية تكفي لتفسيرها، في حالة لغز مثلث برمودا تبين أن معدل حوادث الطائرات والسفن في تلك المنطقة لاتختلف عن معدل الحوادث في أي منطقة أخرى من العالم وكل ما في الامر أن تلك المنطقة تمر فيها السفن والطائرات أكثر من أي منطقة أخرى فمن الطبيعي ان تكثر فيها الحوادث وليس بها شيء مميز، لاحظ هنا أن تحري الدقة في رصد الظاهرة المراد تفسيرها ساعدنا كثيرا، بل في الواقع تبين أن لا وجود لظاهرة غريبة من الاساس.


وهنا نرى أهمية الدقة في دراسة الظواهر والمشاهدات، وعدم التسرع الى استنتاج وجود الظواهر الغريبة، حيث أن وجود ظاهرة غريبة مستعصية على التفسير لهي فكرة مغرية لنؤمن بها ولهذا ينبغي علينا أن نكون أكثر حذرا تجاهها. دراسة الظواهر ينبغي ان تتم أيضا بعيدا عن الاعتقادات السابقة، لأن الحكم المسبق على الامور يشوه رؤيتنا لها وتجاوز هذه العقبة يكون من خلال مراقبة الظاهرة ودراستها من أكثر من عالم وفي أكثر من دراسة علمية.


ثانيا

التفسير العلمي


الخطوة التالية هي وضع الفرضيات التفسيرية، والتفسير هو شرح سبب حدوث تلك الظاهرة أو شرح لماذا تبدو الامور بهذا الشكل وليس بأي شكل اخر، مثلا لماذا السماء زرقاء بدلا من أن تكون بلون اخر؟ التفسير هو أن موجات الضوء الخاصة باللون الازرق أقصر من موجات الالوان الاخرى ولهذا يقوم الغلاف الجوي بتشتيته أكثر من بقية الالوان.


لو كانت السماء حمراء لما كان تفسيرنا ذاك صالحا حينها، فتفسيرنا اذا يشرح لماذا تبدو السماء كما هي الان باللون الأزرق وليس بلون اخر، أما التفسيرات التي تصلح لأي شيء فهي ليست تفسيرات علمية، فلو قلنا أن السماء زرقاء لأن اللون الازرق جميل فهذا تفسير غير علمي حيث أن اللون الاحمر جميل أيضا، وسيبقي التفسير نفسه "لون جميل" مهما كان لون السماء الفعلي.



والتفسير العلمي له عدة أشكال:


التفسير بالسببـية:


والمقصود هو تفسير الظاهرة من ناحية السبب والنتيجة، لماذا انقرضت الديناصورات؟ التفسير أن نيزكا اصطدم بالأرض، لاحظ أن السبب هو ارتطام النيزك والنتيجة هي الانقراض الجماعي.


غالبا الامور لاتكون بهذه الوضوح فهناك أكثر من سبب لحدوث نتيجة معينة، عندما نتحدث عن أن التدخين يسبب السرطان فمن الواضح أن هناك أسبابا أخرى للسرطان بالاضافة للتدخين، وهناك أسباب أخرى تقلل من فرص الاصابة بالسرطان ولهذا ليس كل المدخنين يصابون بالسرطان، وعندما تحاول تفسير تأخرك عن العمل أو عن موعد ما، فقد يكون هناك أكثر من سبب، فهناك أزمة السير لكن هذا لايمنع ان تضاف اليها أسباب أخرى مثل تعطل السيارة أثناء أزمة السير مما جعل التأخير أسوأ.



التفسير بالاختزال:


وهو شرح كيفية عمل النظام عن طريق شرح كيفية عمل أجزاءه، لو سألت مهندس حاسوب عن كيفية عمل الحاسوب فسيقوم بشرح سلسلة الاحداث التي تبدا بضغطك على لوحة المفاتيح ثم انتقال الاوامر الى اللوحة الام ثم الى المعالج ثم كيف تصل المعلومات الى الشاشة في نهاية المطاف، وهذا التفسير يشرح لك كيفية عمل كل جزء من الحاسوب حتى اذا جمعت طريقة عمل الاجزاء فإنك تحصل على طريقة عمل الحاسوب ككل.


يستخدم العلماء التفسير بالاختزال لايجاد تفسير علمي للظواهر الطبيعية، مثل تفسير كيفية عمل الجهاز التنفسي عن طريق وصف كيفية عمل الرئة والقصبة الهوائية وغير ذلك من أجزاء الجهاز التنفسي، وتفسير التفاعلات الكيمائية بواسطة تبادل الذرات للالكترونات فيما بينها يدخل أيضا ضمن التفسير بالاختزال.


لاحظ أن التفسير بالاختزال يختلف عن التفسير بالسببية حيث أن التفسير بالاختزال لا يسعى لملء الفراغ بين السبب والنتيجة بل هو اعادة شرح للنظام ولكن على مستوى أساسي أكثر وتفصيلي أكثر.



التفسير بالغائية أو الوظيفية:


في علم النفس يمكن تفسر سلوك البشر على أساس غاياتهم الواعية، مثلا لم لانحب عادة نجاح الاخرين؟ السبب هو أن نجاحهم يذكرنا بفشلنا، لاحظ هنا الغاية الواعية، حيث أن سبب كراهيتنا للنجاح هو خوفتا من أن نتذكر فشلنا.

لكن ماذا عن العلوم الطبيعية؟ هل للغاية مكان فيها؟ والجواب هو نعم ولكن ليس الغاية العاقلة كما في حالة السلوك الانساني، بل إذا اردنا تعبيرا أكثر دقة فلنا أن نقول ان الغاية في الطبيعة هي الوظيفة، فعندما نسأل ما هي وظيفة القلب فيكون الجواب هو أن القلب وظيفته ضخ الدم لأجزاء الجسم الأخرى، لكن هذه الوظيفة ليسة غائية كما غائية البشر، إنما هي وصف لوظيفة جزء في نظام أكبر.



التجربة العلمية


ولأن التفسير العلمي مصيره أن يتم اختباره يتوجب تصميم تجارب قادرة على اختبار التفسير الذي جئنا به واثباته أو تفنيده، ولهذا يعطي العلماء أهمية كبيرة لطريقة إجراء التجربة حيث أن التجارب سيئة التصميم لن تعطينا الا نتائج مضللة.


ومن أهم العناصر التي ينبغي توفرها في التجربة العلمية:

  1. 1. يجب على التجربة أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي قد تؤدي الى نجاح التجربة حتى لو كان التفسير خاطئا.
  2. 2. يجب على التجربة أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي يمكنها أن تؤدي الى فشل التجربة حتى لو كان التفسير صحيحا.

قام فرانسنكو ريدي في عام 1668 بتجربة لاختبار فرضية التخلق التلقائي كما تسمى وهي الفرضية القائلة بأن اللحم المتعفن قادر بمفرده على انشاء الذباب الذي نراه على اللحم المتعفن، ريدي كان عنده تفسير اخر وهو أن الذباب يضع بيوضه على اللحم ولا يتكون الذباب داخل اللحم، وحتي يختبر تفسيره أحضر قطعتي لحم وغطى احداهما بغطاء يضمن عدم وصول الذباب اليها ولم يغط قطعة اللحم الاخرى، قد تبدو هذه التجربة صحيحة وقادرة على اثبات أو تفنيد تفسيره، ولكن في الحقيقة هناك ثغرات في تجربته بسبب عدم مراعاته للقواعد التي ذكرناها، وقبل أن نشير لتلك الثغرات دعنا نر ما حصل في التجربة.


الذي حصل ان الذباب قد ظهر على قطعة اللحم المكشوفة ولم يظهر على قطعة اللحم المغطاه، وهذه ما نتوقعه بالضبط لو كانت فرضية الخلق التلقائي خاطئة وكان تفسير ريدي صحيحا، لكن مشكلة التجربة التي قام بها ريدي أنها لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي يمكنها انجاح التجربة حتى لو لم يكن تفسيره صحيحا.


أنصار فرضية التخلق التلقائي في ذلك الوقت اعترضوا على تجربة ريدي وقالوا ان الهواء يلعب دورا في التخلق التلقائي وريدي عندما أحكم اغلاق الخطاء على قطعة اللحم حجب الهواء عنها، وفي ضوء الاعتراضات الجديدة اضطر ريدي الى إعادة التجربة لكن هذه المرة غطى قطعة اللحم بخطاء ثقوب دقيقة جدا تسمح بمرور الهواء ولا يسنطيع الذباب اختراقها، وتمكن بتجربته الجديدة الصحيحة اثبات تفسيره في أن الذباب لايتكون داخل اللحم بل يأتي عليه من الخارج، بعيدا عن الشكوك.


وبهذه التجربة الجديدة أخذ ريدي بعين الاعتبار الظروف التي قد تؤدي الى نجاح التجربة بالرغم من خطأ التفسير (و هو منع الهواء في هذه الحالة).


تصميم التجربة الصحيحة لا تقتصر فقط على التجارب التي تجري في المختبر بل على الرصد أيضا، بعض التفسيرات لايمكن التأكد منها عن طريق اجراء التجارب المخبرية، بل عن طريق المزيد من عمليات الرصد، تتوقع نظرية الانفجار العظيم أن الكون لايزال يحتوي على اشعاع من بقايا الانفجار العظيم نفسه وهذا الاشعاع يملأ الكون، والعلماء تمكنوا بالفعل من رصد ذلك الاشعاع أو ما يعرف باشعاع الخلفية الكهرومغناطيسي، لكن كيف نعرف أن ذلك الاشعاع موجود بسبب الانفجار العظيم وليس سببا اخر؟ والجواب هو ان نظرية الانفجار العظيم لا تتوقع مجرد وجود اشعاع وفقط، بل النظرية تتوقع اشعاعا بشدة معينة بناء على ما مضى من سنوات منذ لحظة الانفجار العظيم، وشدة الاشعاع الذي رصدناه تتوافق مع توقعات النظرية.


التجربة العلمية أيضا بجب أن تحتوي على تحديد واضح للنجاح والفشل، ما هي النتيجة التي إذا حصلنا عليها سنعتبر التجربة قد فشلت وبالتالي تفسيرنا خاطئ؟ وما هي النتيجة التي اذا حصلنا عليها أمكننا اعتبار التجربة ناجحة وبالتالي يكون تفسيرنا صحيحا؟


واحدة من الظواهر التي تمت دراستها هي ظاهرة التغطيس Dowsing وهي ظاهرة يدعي أصحابها امتلاكهم القدرة على اكتشاف ابار المياه باستخدام عصي خشبية فقط.



Dowsing

هل يمكننا تصميم تجربة تصدق أو تكذب ظاهرة التغطيس بشرط أن تحتوي على تحديد واضح للنجاح والفشل؟ اليك هذه التجربة: يمكننا وضع عشرة أوعية في حجرة الاختبار، خمسة منها مليئ بالماء والخمسة الاخرى فارغ ويطلب من اصحاب قدرة التغطيس أن يكتشفوا باستخدام قدراتهم أي من الاوعية تحتوى الماء وأيها فارغ، الاوعية تكون مغطاة طبعا فلاسبيل لمعرفة أي منها يحتوي الماء الا بقدرة التغطيس، علينا ترتيب الأوعية بشكل عشوائي حتى لايتمكن أحد من تخمين الاوعية الصحيحة، ثم نجلب المتطوعين ممن يدعون امتلاك قدرة التغطيس.


كم متطوعا نحتاج؟ كلما كبر حجم العينة كلما كان أفضل وذلك لضمان استبعاد عنصر المصادفة، ولكن بسبب ضعف الامكانيات فسنحتاج لمئة متطوع.


إذا تمكن أحد المتطوعين من اكتشاف تسعة من أصل عشرة من الاوعية الصحيحة فسيكون هذا دليلا كافيا على امتلاكه حقا لقدرة التغطيس، أما اذا استطاع معرفة خمسة أو ستة فقط فهذا لا يتعدى كونه مجرد تخمين يمكن لأي شخص أن يقوم به، لاحظ أن الحد الفاصل بين النجاح والفشل في هذه التجربة واضح، اذا تمكن أغلب المتطوعين من معرفة أوعية الماء بما لايدع مجالا للمصادفة فهذا دليل على امتلاكهم لمقدرة التغطس واذا لم تتجاوز نتائج الاختبار ما يمكن أن ينتج عن مجرد التخمين فيكون هذا دليلا على عدم امتلاكهم لمقدرة التغطيس.


لكن تخيل التجربة التالية:
لو أننا دفنا الاوعية المملوءة بالماء في أماكن متفرقة داخل أرض محددة، وطلبنا من المتطوعين وضع راية صغيرة فوق البقعة التي يعتقدون أن وعاء الماء مدفون تحتها، ففي هذه الحالة ماذا لو وضع أحد المتطوعين الراية على بعد نصف متر فقط من وعاء الماء، فهل نعتبره قد نجح في تحديد مكان الوعاء أم لا؟ واضح أن هذه التجربة لا تحتوي على تحديد واضح للنجاح والفشل.


بالنسبة لما يسمى التغطيس، فبالرغم من أن العلماء فندوها بتجارب مشابهة للتجربة التي وصفناها، فإن أصحاب تلك الفكرة لايزالون متمسكين بها بدعوى أنها لايمكن اختبارها في ظروف المختبر وتنجح فقط في "الطبيعة" خارج ظروف التجارب المخبرية، وفي هذه الحالة المشكلة ليست في التجربة بحد ذاتها ولكن بعض الافكار قد صممت خصيصا بطريقة تجعل اختبارها مهمة مستحيلة، وهذا النوع من الافكار واضح أنها ليست علمية، وبما أن التأكد منها متعذر فلا سبب يدعونا للايمان بها من الاساس فعبء الاثبات يقع على صاحب الادعاء وليس على المشكك.


ماذا يحصل بعد التأكد من تفسير معين؟ يتحول ذلك التفسير الى نظرية أو فرضية وسيأتي توضيح الفرق بين الفرضية والنظرية بعد قليل.


سنكتفي بهذا القدر من المنهج العلمي
لكن هناك بعض المصطلحات التي ينبغي توضيحها



الفرضية


الفرضية العلمية او الفرض العلمي هو تفسير لظاهرة أو مجموعة من الظواهر ويكون التفسير علميا إذا راعى الشروط الذي ذكرناها حول قابلية التجربة وقابلية التخطئة، ليست كل الفرضيات بنفس القوة هناك فرضيات تم التأكد منها مرات عديدة وصارت موضع ثقة، بينما هناك فرضيات لم يتم التأكد منها بعد أو أن الادلة عليها ضعيفة، والفرضية لاتفيد أنها مجرد تخمين غير مؤكد كما يوحي المصطلح، بل الفرضية هي تفسير لظاهرة أو مجموعة محدودة من الظواهر، وسيتضح مفهوم الفرضية أكثر عندما نقارنها بالنظرية.



النظرية


إننا نسمع كثيرا عبارة "إنها مجرد نظرية" التي تعطي انطباعا على ان النظريات لا قيمة معرفية لها، وأنها مجرد وجهة نظر لأحد الأشخاص، بينما الحقيقة أن مفهوم النظرية العلمية يختلف عن مفهوم النظرية بالمعنى العامي.


النظرية العلمية هي التفسير الذي يشرح الظواهر على نطاق واسع وهذا هو الفرق بينها وبين الفرضية، الفرضية هي تفسير لمجموعة محدودة من الظواهر أما النظرية فهي تفسير شامل لمجموعة كبيرة جدا من الظواهر، من الامثلة على النظرية العلمية نظرية النسبية العامة التي تفسير الجاذبية على مستوى الكون بأكمله فالنسبية العامة تفسير الجاذبية على الاجرام السماوية الموجودة في المجرات البعيدة وحركة الاقمار الصناعية حول الارض بنفس التفسير.


لكن السؤال الذي ربما يدور في خاطرك، هل النظرية حقيقة أم لا؟ وهنا ينبغي علينا أن نعرف كلمة "حقيقة"، هل تقصد الحقيقة المطلقة ابعد من كل الشكوك الممكنة؟ اذا كان كذلك فلا توجد حقائق مطلقة (الا في الرياضيات والمنطق) ولا وجود للحقائق المطلقة في العلم، ولكن حسب هذا التعريف لكلمة "حقيقة" فإن الاشياء التي تراها بعينيك ليست حقائق مطلقة، فقد تكون الان في حلم وأنت لاتعلم وقد تكون تهلوس أو أن العالم كله غير حقيقي، فلا يمكن اثبات أن العالم حقيقي بشكل مطلق، من الواضح اذن أن هذا التعريف لكلمة حقيقة تعريف غير عملي.


أما اذا كنا نقصد بالحقيقة المعرفة الأكيدة كمعرفة أن الارض ليست مسطحة، فإن النظريات في هذه الحالة تختلف في قوتها بعض النظريات ضعيفة مثل نظرية الاوتار الفائقة وهناك نظريات قوية كنظرية الانفجار العظيم، اذا كانت النظرية مدعومة بالاف الادلة، فعندها لايوجد فرق فعلي بينها وبين الحقيقة.


وقوة النظرية تقاس، بالاضافة الى الادلة، بالقوة التفسيرية لها، فكلما ازاد عدد المشاهدات التي تفسرها النظرية كان ذلك في صالحها وكانت أكثر قوة.


معظم الاختراعات والتكنولوجيا جاءت بناءا على نظريات، على سبيل المثال تكنولوجيا الاسلحة النووية والمفاعلات النووية لتوليد الطاقة جاءت بناء على نظرية نموذج ميكانيك الكم للذرة، بالرغم أن الذرة لاترى بأقوى المجاهر لصغر حجمها فضلا عن رؤية مكوناتها، لكن العلماء عرفوا مكونات الذرة عن طريق اجراء التجارب التي تتبع المنهجية الصحيحة، وهكذا تمكنوا من رسم نموذج الذرة الذي سمح بصناعة المفاعلات والاسلحة النووية.


لماذا العلم يتغير باستمرار؟ كثير ما نسمع أن العلم غير ثابت وأن ما بثبته العلماء اليوم ينفونه غدا، فهل هذا يعني أن العلم مجرد وجهات نظر يتخلى أصحابها عنها؟


قلنا ان النظريات تختلف في قوتها، النظريات التي لا تدعمها أدلة كثيرة يحتمل بشدة أن يتم استبدالها بأخرى أقوى منها، أما النظريات التي عمليا ليست الا حقائق علمية فلا يتوقع أن يتم استبدالها ولكن هذا لا يعني ثباتها أيضا، على سبيل المثال لن يتم استبدال نظرية دوران الارض حول الشمس بنظرية تقول بالعكس (الشمس تدور حول الارض)، ولكن معرفتنا بشكل مدار الارض حول الشمس ليست ثابتة، حيث يحاول الفلكيون ايجاد الشكل الأكثر دقة لمدارات الكواكب حول الشمس، فكان كوبرنيكوس يرى أن المدارت دارئرية تماما، الى أن جاء يوهانس كيبلر واكتشف أنها ذات شكل اهليجي، لكن مهما كان شكل المدار فإن حقيقة دوران الارض جول الشمس لن تتغير.


يشار عادة الى هذا بمفهوم نسبية الخطأ، الارض ليست ثابتة لكن من يقول بثبات الارض هو أقل خطأ ممن بقول بالارض المسطحة، وإن كان كلاهما على خطأ، يمكننا أن نرى أن العلم يتقدم نحو الامام نحو نظريات أكثر صحة (أو أقل خطأ) من سابقتها.



القانون الطبيعي


القانون الطبيعي وصف لبعض خصائص الكون ويستخدم القانون لتوقع أحداث مستقبلية، عندما نتحدث عن قانون نيوتن الاول وهو قانون القصور الذاتي، الجسم الساكن يبقى ساكن والجسم المتحرك يبقي متحركا بنفس السرعة ونفس الاتجاه ما لم تؤثر عليه قوة خارجية، هذا القاون هو وصف لحركة الاجسام ويمكن استخدامه لتوقع سلوك الاجسام في المستقبل فعندما نطلق مسبارا فضائيا فاننا نتوقع سلوكه بناء على قانون القصور الذاتي بالاضافة لقوانين اخرى وهكذا يصل المسبار الى وجهته المقررة له.


نلاحظ هنا أيضا أن القوانين هي تعميمات على الكل من خلال دراسة الاجزاء، ففي مثالنا عن المسبار الفضائي توقعنا سلوكه من خلال دراستنا لسلوك أجسام مشابهة، ايضا يمكننا تعميم القوانين على الاجزاء البعيدة عنا في الكون بالرغم من أننا لم نرها بعد.



قابلية التخطئة


وقابلية التخطئة مبدا علمي جاء به الفيلسوف الانجليزي كارل بوبر، وقد رأينا كيف أن التفسيرات العلمية يجب أن تكون قابلة للتجريب واذا فكرنا في الامر سنجد قابلية التجريب تؤدي الى قابلية التخطئة، فعندما تفشل التجربة (المصممة بالشكل الصحيح) فإن هذا يعني أن التفسير غير صحيح، ولا ينبغي أن نخلط بين التفسير القابل للتخطئة وبين التفسير الخاطئ، فقابلية التخطئة تعني ببساطة امكانية اجراء تجربة لتفنيد ذلك التفسير.


وقابلية التخطئة هو شرط يجب أن يتوفر في النظريات والفرضيات لجعلها علمية فالنظرية أو الفرضية التي لايمكن تصميم تجربة لتخطئتها ليست علما.



مبدا نصل أوكام


ينسب هذا المبدأ الى الفيلسوف ويليام الاوكامي، ويشار عادة الى هذا المبدأ على أساس أنه اختار التفسير الابسط من بين التفسيرات المحتملة، ولكن هذا تبسيط مخل نوعا ما، اذا أردنا تحري الدقة فإن مبدأ أوكام يخبرنا أن علينا التخلص من أي افتراضات زائدة عن الحاجة ولبس عليها دليل، ويقصد بالافتراض الزائد عن الحاجة هي تلك العناصر التي يحتويها التفسير ويمكن الاستغناء عنها ويبقي التفسير صحيحا.


اذا عدت الى بيتك في احد الايام لتكتشف أن زجاج النوافذ قد تحطم، واثار أقدام تظهر ان شخصا ما قد دخل وخرج من النافذة المحطمة، يمكنك أن تفسر هذه المشاهدات بأن مخلوقا مصاصا للدماء اقتحم منزلك بغرض السرقة، لكن تفسيرك هذا يحتوي على افتراض ليس عليه دليل وهو ان المخلوقات مصاصة الدماء موجودة وبوسعها سرقة البيوت، أيضا عنصر المخلوق مصاص الدماء هو عنصر زائد عن الحاجة في تفسيرك حيث يمكنك تفسير الزجاج المكسور بأن لصا بشريا اقتحم البيت.



العلم الزائف


كما يوجد العلم يوجد ايضا العلم الزائف pseudoscience والمقصود بالعلم الزائف تلك الاعاءات التي تدعي أنها علمية ولكنها لاتطبق المنهج العلمي، إما أنها لاتقدم تفسيرات للظواهر أو أنها تقدم تفسيرات لايمكن تجريبها.


ويمكن للعلم الزائف أن يصدر عن علماء حقيقيين لهم أبحاث علمية صحيحة، فالعلم الزائف ليس الا ادعاءات وهذه الادعاءات قد تصدر عن أي شخص ولا يوجد انسان منيع ضدها، لهذا وجب على العلماء الاجتهاد في تطبيق المنهج العلمي على أي ادعاء مهما كانت مكانة صاحبه.


أيضا العلم الزائف لايتطور مع الزمن ويبقي على حاله، تحدثنا سابقا عن تطور معرفتنا عن مدار الارض نحو معرفة أكثر دقة بينما اذا نظرنا الى التنجيم كمثال على العلم الزائف نجد انه لازال على حاله فلم تتطور معارف المنجمين ولم تصبح أكثر دقة منذ ظهور التنجيم قبل الاف السنين.


ومن خصائص العلم الزائف أيضا معاملته للشك على أنه انغلاق عقلي، تحدثنا في مثالنا عن مثلث برمودا كيف أن العلماء يسعون الى تفسير الظواهر بالمعارف والنظريات التي بحوزتنا الان قبل محاولة انشاء نظريات جديدة، بينما يقفز العلم الزائف الى محاولة انشاء نظريات جديدة تتحدى كل مانعرفه بناء على مشاهدات غير دقيقة وأدلة غير كافية.



حدود المنهج العلمي


كما رأينا فإن العلم ليس إلا محاولتنا للمعرفة، والمعرفة البشرية لها حدود، والعلم على روعته الا أنه بشري وله حدوده وهناك أسئلة لايقدر العلم أن بجيب عليها وهذا ليس قصورا في العلم بحد ذاته لكن طبيعة بعض المعارف تمنعنا من فهمها باستخدام المنهج العلمي.


الاسئلة عن أجمل لون من وجهة نظرك أو فريقك المفضل، لا يجيب العلم عليها وليست وظيفته أن يجيب عليها، من الواضح أن اجابات تلك الاسئلة شخصية تختلف من انسان لاخر وليس لها اجابة موضوعية.


والعلم ليس المنهج المعرفي الوحيد هناك أيضا الفلسفة، الدين والفن، وكل واحد من هذه المناهج له وظيفته فالعلم يخبرك بالحقائق والبيانات أما الجماليات فهي من اختصاص الفن والدين يعطي الاخلاق والروحانيات، ولا يمنع هذا وجود نقاط تلاقي بين تلك المناهج المعرفية، لكن كل واحد له اختصاصه.


ببساطة العلم هو طريقة اكتشفناها لجني المعرفة وهي طريقة ناجحة جدا، وبالرغم من أننا لازلنا في بدايتها فإننا نرى ثمارها بين أيدينا، العلم يشبه شمعة نشعلها في ظلام الكون، لا تنير لنا كل شيء ولكنها أحسن ما توصلنا اليه، فلنحرسها بما نستطيع.



اذا كان عندك سؤال فلا تترد بكتابته في التعليقات، واذا اعجبك المقال قم بمشاركته مع من تعرف من محبي العلم.




مراجع وروابط خارجية،
http://www.livescience.com/20896-science-scientific-method.html
http://www.britannica.com/topic/philosophy-of-science
http://spaceplace.nasa.gov/science/en/
http://undsci.berkeley.edu/article/whatisscience_01
Share on Google Plus
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.