مفارقات منطقية



Science

لاشك ان المفهوم المفارقة أو التناقض مهم جدا للمعرفة البشرية ، فيمكنك من خلاله الاستدلال على صحة المعطيات القادمة من الاخرين، إذا أخبرك أحدهم أنه تخرج من الجامعة وفي اليوم التالي قال أنه لم يتخرج بعد فإنك لن تصدقه لأن كلامه ببساطة متناقض، والشيء المتناقض لايمكن أن يكون موجودا حقا ، وإنه فعلا لشيء مثير للاهتمام أن نعيش في كون لايسمح بوجود التناقضات.
قانون عدم التناقض اذا جاز لنا تسميته هكذا أو كما سماه ارسطو: قاعدة الثالث المرفوع، هو قانون بدهي معروف منذ بدأ الانسان بالتفكير، ولا مجال لإنكاره لأن من يزعم إمكانية التناقض يزعم أيضا بعدم إمكانية التناقض؛ وبالرغم من هذا فإن قانون عدم التناقض يوقعنا في مجموعة من التناقضات التي يفترض بقانون عدم التناقض أن يمنعها!
والمفارقات مثيرة للاهتمام لأنها تتحدى مقدرة العقل على الفهم وترينا كم عقولنا قاصرة عن فهم كل شيء في الكون، سنعرض هنا أهم المفارقات وإن لم تكن الوحيدة


مفارقة كريت


عاش في جزيرة كريت في البحر الابيض المتوسط شاعر و فيلسوف يدعى ابيميندس وضاق ذات مرة ذرعا بجيرانه وسوء اخلاقهم وكذبهم عليه فقال إن كل سكان كريت كاذبين، ومن دون أن ينتبه فانه قد صنع لغزا فلسفيا ومفارقة منطقية، فإن كان صادقا في كلامه فإن سكان كريت كاذبين حقا وهو منهم، فهو كاذب مثلهم، وبما أنه كاذب مثلهم فإن سكان كريت صادقين بالضرورة(على عكس ما قال)، وإذا كان سكان كريت صادقين فهو صادق أيضا وهكذا نرى التناقض.
مفارقة كريت تسمى أيضا مفارقة الكاذب أو مفارقة الكذاب نسبة الى الشخص الذي يصف نفسه بالكاذب فبالتالي وصفه لنفسه بالكاذب يجعل منه صادقا وكاذبا في الوقت نفسه.
يمكن شرح مفارقة الكاذب بطريقة أبسط ، انظر للعبارة التالية وسنسميها العبارة X :


(هذه العبارة غير صحيحة)

والسؤال هو هل العبارة X صحيحة ؟ أذا كانت صحيحة فهذا يعني أنها غير صحيحة –فهذا ما تدعيه العبارة- وهذا تناقض.

وبمكننا صنع التناقض من غير جعل الجملة تشير الى نفسها

X : العبارة Y غير صحيحة
Y : العبارة X صحيحة

وقد حاول الفلاسفة حل هذه الاحجية بعدد من الحلول ، أحد تلك الحلول يقول إن بعض العبارات لا يمكن وصفها بالصواب أو الخطأ فهي مثل عبارة "تعال الى هنا" أو عبارة "ما أسمك؟" ، ببساطة هناك عبارات لا يجوز تصنيفها لصواب و خطأ، لكن من يقرر أي العبارات قابلة للتصنيف وايها ليست كذلك؟ لا ننسى أيضا أن العبارات السابقة ( X و Y )عبارات خبرية وليست أسئلة أو جمل أمرية ويفترض بالعبارات الخبرية أن تكون إما صواب او خطأ.


مفارقة الكومة


وهذه المفارقة تأتي بأشكال عديدة، أبسطها كالتالي: إذا كان عندنا كومة من الحجارة وأخذنا منها حجرا واحدا فهي لاتزال كومة بلاشك لكن اذا استمرينا بأخذ الحجارة فسيأتي وقت تتوقف فيه الكومة عن أن تكون كومة، والسؤال ما هو بالضبط عدد الحجارة اللازم أخذها من كومة الحجارة بحيث يكون عدد الحجارة المتبقية أقل من اللازم لعمل كومة؟ ويمكننا أن نجري التجربة بالعكس إذا وضعنا حجرا واحدا على الارض فهو لايشكل كومة وكذلك لو وضعنا حجرين أو ثلاثة، فمتى نصل لعدد الحجارة اللازم لعمل كومة من الحجارة.
مفهوم الصلع يدخل ضمن هذا الباب ، متى يحق لنا أن نقول عن شخص أنه أصلع ، لاشك أن امتلاك شعرة واحدة لا ينفي الصلع وكذلك شعرتين فقط، فما هو عدد الشعر اللازم للانتقال من الصلع الى اللاصلع؟
وهناك أيضا مفارقة العدد الكبير، 1 ليس عدد كبير وكذلك 2 و 3 أيضا ، نستنتج أنك اذا أخذت عدد صغير وأضفت عليه 1 فإنك ستحصل على عدد صغير اَخر ، ولكن هذا غير صحيح فعندما تصل الى المليون لاشك أنك وصلت عندها لعدد كبير ، فمتى تنتهي الأعداد الصغيرة وتبدأ الأعداد الكبيرة؟.


مفارقة زينون الايلي


ولعل هذه الاشهر بين المفارقات وقد طرحها زينون الفيلسوف اليوناني في القرن الثالث قبل الميلاد، والله أعلم ماذا كان هدفه منها حقا حيث أن أعماله لم تصل الينا فلم نعرف عن زينون الا من خلال ردود أفلاطون وأرسطو عليه.
ومفارقة زينون هي مفارقة الحركة، وقام زينون بتوضيحها عبر تخيله لسباق بين بطل خيالي اسمه أخيل وبين سلحفاة، ولأننا نريد تبسيط الامور فلننسى أمر السلحفاة ولنركز على أخيل ، فما يهمنا في النهاية هو الفهم الدقيق لهذه المفارقة، أخيل يريد أن يعدو من النقطة (أ) الى النقطة (ب) ولهذا فهو ملزم بالطبع بأن يمر بالنقطة التي تـنـتصف بين (أ) و (ب) وسنسميها النقطة (ج).


sphericalearth-prof

وحتى يصل من النقطة (ج) الى النقطة (ب) عليه أيضا أن يمر خلال النقطة التي تـنـتصف بينهما: النقطة (د).


sphericalearth-prof

وكما نرى من الواضح لنا أن رحلة أخيل لن تنتهي ولن يتمكن من الوصول الى النقطة (ب) أبدا، فكلما وصل لنقطة جديدة فلايزال بالامكان تقسيم المسافة بين النقطة الجديدة والنقطة (ب) وهكذا فإن عدد النقط التي على أخيل أن يمر بها ليصل لخط النهاية هو عدد لانهائي من النقط ولا يمكن لأخيل النجاح بالعبور خلالها كلها ،يمكننا أن نستنتج من هذا ان الحركة مستحيلة في الكون حيث أن الحركة تحتوي على تناقض، وهذا الاستنتاج لاشك أنه غير صحيح فنحن نرى الحركة تحدث طوال الوقت، وهنا تكمن مفارقة الحركة فالحركة "تبدو" كأنها مستحيلة منطقيا ولكن من الواضح أنها ممكنة عمليا.
أحد الحلول المطروحة، هو أن الفضاء أو الفراغ لا يمكن تقسيمه الى المالانهاية كما يحلو لنا، فبالتالي أخيل سيطر عاجلا أم اجلا للانتقال من نقطة معينة الى النقطة (ب) من غير أن يتمكن من تجزأة المسافة بين النقطتين ، والفيزياء الحديثة تدعم هذا الحل حيث أن ميكانيك الكم تقول لنا أن ما يسمى طول بلانك ، هو أقصر طول فعلي يمكننا أن نحصل عليه، ولايمكن تقسيم طول بلانك نهائيا، فبالتالي جركة أخيل وحركتنا نحن أيضا ليست الا قفزات عبر الفضاء كل قفزة منها بطول بلانك البضبط ، فلا يمكن لشيء أن يتحرك بنصف طول بلانك مثلا.
وهذا الحل ليس نهائي بسبب ان ميكانيك الكم تختص بالاجسام الصغيرة جدا صغر الذرة فما دون ولا تنطبق قواعدها على الأجسام المرئية كبيرة الحجم، ورغم هذا يبقي حل مفارقة الحركة عبر تقسيم الفراغ حلا معقولا الى حد ما.


مفارقة الحلاق


وتسمى أيضا مفارقة راسل نسبة الى بيرتراند راسل الفيلسوف وعالم الرياضيات، وقد حكى راسل قصة عن قرية ليس بها الا حلاق واحد وهذا الحلاق يحلق لكل شخص في القرية إذا كان ذلك الشخص لا يحلق لنفسه، الى هنا الامور تبدو جيدة لكن من يحلق للحلاق؟ لا أحد فهناك حلاق واحد في القرية وبما أنه لا أحد يحلق للحلاق فهو ملزم بحلاقة نفسه ، وإذا حلق لنفسه فهو بهذا يناقض نفسه حيث أنه يحلق فقط لمن لا يحلقون لأنفسهم.
طبعا الجواب على هذه المفارقة بسيط جدا، وهو أن هذه القرية المتناقضة لايمكن أن تكون موجودة، ولكن راسل عبر روايته لهذه القصة كان يقصد فقط توضيح مفارقة حقيقية جدا وتعرف بمفارقة راسل ، وتتعلق بنظرية المجموعات بالرياضيات ويمكننا تبسيطها كالتالي:
عندنا مجموعة من الارقام وسنسمي تلك المجموعة A
A : {1,2,3,4}
بكل بساطة المجموعة A مكونة من أربع أرقام
يمكننا أنشاء مجموعة أخرى B
B : {A,9,3,B}
لاحظ هنا ان المجموعة B لاتحتوي على الارقام فقط وإنما تحتوي أيضا على المجموعة A وتحتوي ايضا على B نفسها، وهذا شرعي جدا يمكن للمجموعات أن تحتوي على أرقام وأحرف وتحتوي مجموعات أخرى وتحوي نفسها أيضا ، الى هنا لايوجد مشاكل.
ماذا لو أنشأنا مجموعة جديدة R وقلنا إن هذه المجموعة تتكون من جميع المجموعات التي لا تحتوي على نفسها، لاشك أن المجموعة R ستحتوي على A حيث أن A لاتحتوي على نفسها و R لن تحتوي على B لأن B تحتوي نفسها ، فهل تحتوي R على نفسها؟

اذا قلنا أن R لاتحتوي نفسها
R : {A}
بما أن R تحتوي بحسب تعريفها على جميع المجموعات التي لاتحتوي على نفسها ، فان R يجب ان تحتوي على نفسها
R : {A,R}
ولكن في هذه الحالة R صارت تحتوي على نفسها وناقضت تعريفها

وهذه بالفعل مشكلة عويصة في الرياضيات وقد قام العلماء بتعديل نظرية المجموعات لأجل احتوائها ولكن منطقيا و عقليا لاتزال المفارقة قائمة.


ما معنى هذا كله؟

ما معنى وجود هذه المفارقات في عالمنا الذي لايسمح بوجود التناقض ؟ لعل بعض هذه المفارقات لغوي محض ، مفارقة الكاذب مثال على هذا، لكن لاشك أن المفارقات موجودة بسبب الضعف الموجود في المنطق، فبالرغم من عدم قدرتنا على الاستغناء عن المنطق لأهميته الواضحة إلا أنه رغم ذلك منطق بشري يعتريه النقص حاله حال العقل البشري والعلم البشري وغير ذلك ، لكن هذا لايعني استحاله حل تلك المفارقات فربما نحن بحاجة الى تطوير منطقنا وعلومنا أكثر ، ربما الحلول موجودة حقا ولكننا بحاجة لأن نبحث عنها بطرق غير مألوفة لنا قد تصل بنا الى الحاجة لإعادة برمجة عقولنا بطريفة لم تكن لتخطر على بال أسلافنا من العلماء والفلاسفة.



Share on Google Plus

1 التعليقات:

  1. حل مفارقة الحلاق بالنسبة لي هو بما ان القرية تحتوي على اشخاص يمكنهم الحلاقة لنفسهم بمعنى انهم يمكنهم مساعدة الحلاق في حلاقة نفسه

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.