تخيل أنك قائد بعثة استكشافية فضائية مهمتها
اسكتشاف الثقوب السوداء عن قرب، تحت امرتك سفينة فضاء مجهزة لهذه المهمة بالذات،
السفينة الفضائية سريعة جدا لتصل بك الى أي مكان في الكون وتحتوي السفينة على مسبار
فضائي مخصص لينفصل عن السفينة الأم ويغوص في عمق الثقب الأسود،
يمكن التحكم بالمسبار عن بعد وعليه كمرات تراقب كل شيء، وبناء على الخريطة الكونية
المعطاة اليك فإنك تتوجه بالسفينة الفضائية الى أحد الثقوب السوداء في مجرتنا.
عندما تصل الى وجهتك وترى الثقب الاسود أمامك
يقبع في عتمة الفضاء فإن الثقب الاسود لن يقوم بابتلاع سفينتك كأنه مكنسة كهربائية
عملاقة، هذه في الواقع من الاخطاء الشائعة عن الثـقوب السوداء، الثقوب السوداء لها
جاذبية قوية بلاشك ولكنها لاتعمل كمكنسة كهربائية وانما جاذبية الثقب الاسود تعمل
كما تعمل الجاذبية عند كل الاجرام السماوية الاخرى.
يمكنك في الحقيقة تحويل أي شيء الى ثقب أسود
اذا تمكنت من ضغط مكوناته بما يكفي، اذا قمت بطريقة ما بضغط كوكب الارض حتى صار
حجمه لايتجاوز حجم العملة النقدية فستحصل عندها على ثقب اسود وهذا الثقب الاسود له
نفس جاذبية الارض من حيث قوة الجذب، لاحظ أن لهما نفس الكتلة وإن اختلفا في الحجم.
لسوء الحظ لا نعرف كيف نضغط المواد لتحويلها
لثقوب سوداء، ولكن هذه العملية تحصل عند موت النجوم، شمسنا لن تتحول الى ثقب أسود
بل النجوم التي تتحول لثقوب سوداء هي تلك النجوم الكبيرة التي تفوق كتلة شمسنا بكثير،
عندما ينفد الوقود من نجم عملاق يبدأ بدمج العناصر التي في داخله مثل السيليكون
والاكسجين لتكوين عناصر ثقيلة كالحديد والنيكل، و دمج الحديد لا يعطي النجم طاقة
كافية لهذا يستمر الحديد والعناصر الثقيلة بالتراكم في باطن النجم وعندما ينضغط
باطن النجم بشكل كبير يتسبب هذا بانهيار النجم على نفسه، أثناء الانهيار جزء من
كتلة النجم ينفجر ليشكل مستعرا أعظم Supernova بينما ما
تبقي من كتلته تستمر بالانضغاط لتكوين ثقب أسود، وهذا يسميه العلماء الثقب الاسود
النجمي لأنه تكون من النجوم وله كتله تقارب كتلة النجوم، وهناك أنواع أخرى من
الثقوب السوداء مثل الثقوب السوداء الهائلة Super Massive Black Holes
وهي التي تتمركز في وسط المجرات كمجرتنا هذه، الثقوب السوداء الهائلة تجذب الغازات
والنجوم التي في مركز المجرة بسرعة شديدة واحتكاك تلك الغازات ببعضها يجعلها تتوهج
لهذا نرى ذلك الضوء الساطع في وسط المجرة.
أما بالنسبة لتكون الثقوب السوداء الهائلة فيعتقد
العلماء انها تشكلت عن طريق اصطدام المجرات ببعضها فتنضغط مكونات المجرات المتصادمة
لتشكل ثقبا أسودا هائلا.
اذا قمنا باستبدال شمسنا بثقب أسود له نفس
الكتلة فستبقى الكواكب بما في ذلك الارض تدور في مداراتها كما تدور الان –باستثناء
انها ستتجمد من البرد- لكن لن يتم امتصاصها داخل الثقب الأسود.
بناء على هذا يمكنك أن تدور بسفينتك الفضائية
حول الثقب الاسود بدون مشاكل طالما أنت بعيد مسافة كافية أو اذا كانت مركبتك الفضائية
سريعة بما يكفي لتقاوم جاذبية الثقب الاسود، وهذا يمكنك من القاء نطرة استطلاعية مبدئية.
ما هو الثقب الاسود؟
الثقب الاسود هو منطقة في الفضاء حيث
الجاذبية عظيمة جدا لدرجة أن الضوء لايستطيع أن يفلت منها مثل ما أننا لانستطيع الافلات
من جاذبية الارض والطيران كالطيور، الا عندما نستخدم الصواريخ التي تتمكن بسرعتها من
الافلات من جاذبية الارض، وكلما كانت الجاذبية أقوى كلما تطلب الامر سرعات أكبر
للهروب منها، والمشكلة مع الثقب الأسود أن جاذبيته القوية تحتاج الى سرعة أكبر من
سرعة الضوء للهروب منها، وهذا يعني أن الضوء نفسه ليس بوسعه الافلات، ولهذا الثقب
الاسود مظلم فلا ضوء يأتي منه الينا.
إذا كانت الثقوب السوداء معتمة فكيف نتمكن من
رصدها؟ هناك عدة طرق تستخدم، منها مراقبة تأثير جاذبية الثقب الاسود على الاجسام
التي حوله، ومراقبة الغاز والنجوم التي تسقط في الثـقب الاسود، وفي عام 2016 تم
اكتشاف موجات ثقالية دلت العلماء على وجود نظام ثنائي من الثقوب السوداء(1)(2).
نعود الى سفينتنا الفضائية التي لاتزال تدور
حول الثقب الاسود، الثقب الاسود لا يبدو كثقب حقا أو حفرة بل جسما كرويا معتما،
وهذه الكرة السوداء هي ما يسمى "أفق الحدث" Event horizon
وبداخلها تقع “التفردية” Singularity
كحال أي جسم في الكون كلما اقتربت منه ازددت
تأثرا بجاذبيته، لكن مايميز الثقب الاسود هو افق الحدث، وكل ما يدخل افق الحدث لن
يخرج أبدا والسبب كما قلنا قوة الجاذبية الهائلة داخل افق الحدث تمنع أي شيء من المغادرة
الا اذا كان ذلك الشيء أسرع من الضوء ولكن بما أنه لاوجود لما هو أسرع من الضوء
فلا أمل لشيء بمغادرة أفق الحدث، افق الحدث ليس إلا مكان وفضاء ولكنه منجذب بشدة الى
الداخل باتجاه التفردية، وبما أن أفق الحدث مكان فهل يمكن لشيء أن يتواجد فيه؟
وهذا يدفعنا للتساؤل عن مصير الاجسام التي تدخل الى الثقب الاسود؟
ماذا يحدث للاجسام التي تدخل الثقب الاسود؟
هنا يأتي دور المسبار الفضائي على متن
سفينتنا، فتقرر انزاله لاستكشاف مايوجد داخل الثقب الاسود، وصرت تراقب المسبار من
خلال نافذة السفينة الام ولا تنسى أيضا الكاميرات المثبتة عليه، بينما المسبار
يقترب من الثقب الاسود فإنك ستلاحظ تباطؤ حركته وهذا بسبب فرق سرعة جريان الزمن بينك
وبين المسبار، والفرق في سرعة جريان الزمن يسببه الجاذبية الهائلة للثقب الأسود،
فالزمن داخل الثقب الاسود شبه متوقف بسبب الجاذبية الكبيرة، وقد تحدثنا عن تأثير
الجاذبية على الزمن في مقال سابق، وعند اصطدام المسبار بأفق الحدث فأنك
ستراه قد تجمد في مكانه، ولن تراه أبدا يجتاز افق الحدث (بالرغم من أن المسبار
يجتاز الافق فعلا ويدخل الثقب الأسود)، والسبب كما قلنا أن الزمن متوقف عند المسبار
من وجهة نظرك بسبب الجاذبية الهائلة للثقب الأسود، بعد ذلك ستبدأ برؤية المسبار
يتلاشى تدريجيا حتى يختفي كليا، والسبب في هذا يعود الى أن الضوء القادم من
المسبار المتجمد، يفقد طاقته تدريجيا بسبب جاذبية الثقب الاسود حتى يصبح غير مرئي.
لكن ماذا عن الكاميرات التي ثبتناها على المسبار؟
الكاميرات لن تتمكن من بث الصور الينا لأن موجات البث اللاسلكي تسير بسرعة الضوء
وهي سرعة غير كافية للهروب من أفق الحدث كما سبق أن ذكرنا، في هذه اللحظة قد
انقطعت علاقتنا مع المسبار نهائيا ويمكنك أن تنسى أمره، فلا شيء يغادر افق الحدث.
إن مايحدث داخل افق الحدث اعمق من مسألة أن
الضوء لايصلنا، الاحداث داخل افق الحدث لا تحدث أساسا من وجهة نظرنا، ومن هنا جائت
التسمية "افق الحدث"، لانريد أن نتعمق في هذا لكن يمكننا النظر الى
الثقب الأسود على أساس أنه مجموعة الاحداث التي لم تحصل والكرة السوداء التي نراها
هي ما يتجلى لنا بعد حذف تلك الاحداث من كوننا!
نعود الى المسبار الذي القيناه في الثقب
الاسود، بالرغم من فقداننا للاتصال معه لكنه قد دخل افق الحدث حتى لو لم نره، فما
الذي يحصل من وجهة نظر المسبار؟ المسبار يكمل طريقه داخل الثقب الاسود وكان شيئا
لم يكن، في البداية فقط، ثم بعد ذلك ومع اقترابه من قلب الثقب الاسود حيث التفردية
فإن الجاذبية تصبح على مقدمة المسبار أكبر بالاف المرات من الجاذبية على مؤخرة
المسبار، هذا يعني أن مقدمة المسبار تتجه نحو التفردية بشكل أسرع بكثير من بقية
أجزائه
وهذا أكثر من كاف لتحطيم المسبار، بل حتى
تفتيته الى الذرات التي يتكون منها، ويتحول المسبار الى ما يشبه خط طويل من الذرات
تسير باتجاه التفردية، ومشكلة التفردية أن لا أحد يعلم ما هي حقا، قد تكون
التفردية جسما ليس له أبعاد (طول،عرض،ارتفاع) وله كثافة لانهائية، وقد تكون شيئا
اخر تماما، التفردية تمثل حافة المعرفة بالنسبة للفيزياء ونحن بحاجة الى قوانين
فيزيائية جديدة لنفهما، حتى لو نجا مسبارنا من الجاذبية الشديدة لازلنا لا نعرف
الى أين سينهي به المطاف عند وصوله للتفردية.
وقد تتسائل كيف نعرف بوجود التفردية داخل
الثقب الاسود وأن لها هذه الخصائص؟ والجواب أن تطبيق معادلات نظرية النسبية العامة
على جاذبية هائلة كالثفب الأسود جعل العلماء بستنتجون وجود تلك التفردية، اما ما
يدخل الى التفردية فلا يوجد نظرية تتوقع ما سيحصل له فهذا لايزال أحد أسرار الكون
الذي لم يكتشف بعد.
الى هنا تنتهي رحلتنا الاستطلاعية الى الثقب الأسود
احد عجائب الكون التي لاتنتهي، وانه لشيء رائع حقا أن تعيش في كون يحتوي بداخله
على كل هذه العجائب التي لايمكن تخيلها وأحيانا يصعب تصديقها.
مراجع وروابط خارجية
0 التعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.